إن صحابة رسول الله هم الذين صَدَّقوا دعوة النبي محمد ، وآمنوا برسالته، وصحبوه في سلمه وحربه، لفترة زمنية طويلة، فعلموا فيها حقيقة محمد وخبيئته، فلو كان محمد فظًّا في تعامله، سيئًا في سريرته، لكانوا أوَّل الناس ابتعادًا عنه، وكُرْهًا له، لكن الأمر كان على النقيض تمامًا؛ إذ كانوا يزدادون يومًا بعد يوم، فبلغ عدد من شهد حَجَّة الوداع منهم مائة ألف صحابي أو يزيد.
شهادة أنس بن مالك
وقد شهد القريب والبعيد من صحابة رسول الله بحُسْنِ خُلق النبي ، فهذا أنس بن مالك أحد الصحابة الذين عاشوا مع محمد بصورة شبه كاملة؛ في البيت، وفي المسجد، وفي الطريق، وفي السوق، وفي الحرب، يقول: "خَدَمْتُ النَّبِيَّ عَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِي أُفٍّ، وَلا لِمَ صَنَعْتَ، وَلا ألاَّ صَنَعْتَ"[1].
وهذا مثال في غاية الروعة، ووصفٌ في غاية الجمال؛ فعشر سنين فترة زمنيَّة ليست بالهيِّنَة ولا القصيرة، ورغم ذلك لم يخرج من فم رسول الله أقل عُتب أو لوم لأنس ، ولو خرج في هذه المُدَّة من رسول الله ما يُغضب أنسًا لقاله، ولأخبر به بعد وفاة النبي ، لكن ذلك لم يحدث.
شهادة زيد بن الدثنة وحبه لرسول الله
لقد أقرَّ كُلُّ الصحابة -بلا استثناء- بِحُبِّ رسول الله ، وكان هذا الحُبُّ والإنصاف نابعًا من تصديقهم برسالته، ومعايشتهم لواقعه. وممَّا يُدَلِّل على هذا الحُبِّ والإنصاف موقف الصحابي زيد بن الدَّثِنَة ، الذي أسَرَه بعضُ الهُذَلِيِّينَ، وباعوه لصفوان بن أمية القرشي الذي كان والده أمية قُتل في غزوة بدر الكبرى، فأراد أن يثأر لوالده بقتله لزيد بن الدَّثِنَة، فأخذوه إلى الحرم ليقتلوه، فرأى أبو سفيان رباطة جأشه، وإقباله على الشهادة بحُبٍّ منقطع النظير، فقال له: أتحبُّ أنَّ محمدًا عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه وأنَّك في أهلك؟ قال: والله ما أُحِبُّ أنَّ محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تُصِيبه شوكةٌ تؤذيه وأنا جالسٌ في أهلي[2].
إن زيدًا على مشارف الموت، وهذه اللحظة هي أصدق لحظة مع النفس؛ يُصَرِّح فيها الإنسان بالحقيقة التي لا جدال فيها، والتي تُؤَكِّدُ بكُلِّ ثقة واطمئنان أن محمدًا في وجدان أصحابه نبيٌ مرسل، فلو لم يكن كذلك، وكان دَعِيًّا كاذبًا، لما ضَحَّى زيدٌ وغيره من الصحابة بأرواحهم وأموالهم في سبيلِ دَعِيٍّ كاذب.
شهادة وقصة إسلام سلمان الفارس
وممن شهد بصدق رسول الله ، سلمان الفارسي الذي ظَلَّ يبحث عن النبي الحقِّ الذي عَرَف صفاته ومناقبه من أحد الرهبان في عَمُّورِيَة، بعدما طلب منه سلمان أن يدلَّه على راهب من الرهبان يعيش في كنفه عابدًا لربه، ويقص علينا سلمان قصته مع الهداية قائلا: "قال راهب عمورية: أي بُنيّ... قد أظلك زمان نبي هو مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب مهاجرًا إلى أرض بين حرتين[3]، بينهما نخل به علامات لا تخفى، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعلْ. قال سلمان: ثم مات وغُيِّب، فمكثت بعمورية ما شاء الله إن أمكث، ثم مر بي نفر من كلب[4] تجارًا، فقلت لهم: تحملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي هذه؟ قالوا: نعم. فأعطيتهموها وحملوني، حتى إذا قدموا بي وادي القرى ظلموني فباعوني مِنْ رجل مِن يهودَ عبدًا، فكنت عنده ورأيت النخل، ورجوت أن تكون البلد الذي وصف لي صاحبي ولم يحق لي في نفسي.
فبينما أنا عنده قدم عليه ابن عم له من المدينة من بني قريظة فابتاعني منه فاحتملني إلى المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي راهب عمورية، فأقمت بها وبعث الله رسوله فأقام بمكة ما أقام لا أسمع له بذكر، مع ما أنا فيه من شغل الرق، ثم هاجر إلى المدينة فوالله إني لفي رأس عَذْقٍ[5] لسيدي أعمل فيه بعض العمل وسيدي جالس، إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه فقال فلانٌ: قاتل الله بني قيلة! والله إنهم الآن لمجتمعون بقباء على رجل قدم عليهم من مكة اليوم، يزعمون أنه نبي. قال: فلما سمعتها أخذتني العُرَوَاءُ[6] حتى ظننت سأسقط على سيدي. قال: ونزلت عن النخلة فجعلت أقول لابن عمه ذلك: ماذا تقول؟! ماذا تقول؟! قال: فغضب سيدي فلكمني لكمة شديدة، ثم قال: ما لك ولهذا؟! أقبلْ على عملك. قال: قلت: لا شيء، إنما أردت أن أستثبتَ عما قال.
وقد كان عندي شيءٌ قد جمعته، فلمَّا أمسيت أخذته، ثم ذهبتُ به إلى رسول الله وهو بقُبَاء، فدخلتُ عليه، فقلتُ له: إنَّه قد بلغني أنَّك رجلٌ صالحٌ، ومعك أصحابٌ لك غرباء ذوو حاجةٍ، وهذا شيءٌ قد كان عندي للصَّدَقة، فرأيتكم أحقَّ به من غيركم. قال: فقَرَّبْتُه إليه. فقال رسول الله لأصحابه: "كُلُوا". وأمسك يده فلم يأكل. قال: فقلتُ في نفسي: هذه واحدةٌ. قال: ثم انصرفتُ عنه فجمعت شيئًا، وتحوَّل رسول الله إلى المدينة، ثم جئتُه به. فقلتُ له: إنِّي قد رأيتُكَ لا تأكل الصدقة، وهذه هديَّةٌ أكرمتُكَ بها. قال: فأكل رسول الله منها، وأمر أصحابه فأكلوا معه. قال: فقلتُ في نفسي: هاتان اثنتان. ثم جئتُ رسول الله وهو ببقيع الغرقد، قد تبع جنازة رجلٍ من أصحابه عليه شَمْلتان[7] له، وهو جالسٌ في أصحابه، فسلَّمْتُ عليه ثم استدرتُ أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي؛ فلمَّا رآني رسول الله استدبرتُه[8]، عرف أنِّي أستثبتُ في شيءٍ وُصِف لي، فألقى رداءه عن ظهره، فنظرتُ إلى الخاتم فعرفتُهُ، فأكببت عليه أُقَبِّله وأبكي. فقال لي رسول الله : "تَحَوَّلْ". فتحوَّلْتُ، فجلستُ بين يديه، فقصصت عليه حديثي..."[9].
وترجع أهمية قصَّة إسلام سلمان إلى كونها دليلاً يشهد بصدق نُبُوَّة محمد ، بل إن بقاء سلمان على إسلامه، وجهاده ودفاعه عن الدين، ونشره له حتى مماته في عام خمسة وثلاثين من الهجرة، دليلٌ على كون محمد صادقًا فيما أُرسل إليه، ولم يكن مُدَّعِيًا للنُبُوَّة، أو كاذبًا فيما جاء به، ولو رأى سلمان خلاف ذلك لرجع إلى بحثه عن النبي الخاتم، الذي خرج من أجله منذ أعوام عديدة؛ إذ كان ذلك هو شغله الشاغل، لكن ذلك لم يحدث؛ لأن سلمان وجد أن محمدًا نبيٌّ حقًّا، بل هو خاتم الأنبياء أجمعين.
المراجع
[1] البخاري: كتاب الأدب، باب حسن الخلق والسخاء وما يكره من البخل (5691)، ومسلم: كتاب الفضائل، باب كان رسول الله أحسن الناس خلقًا (2309).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق